موقع القصة في القرآن الكريم:
ورد ذكر القصة في سورة الكهف الآيات 60-82.
القصة:
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) (الكهف: 60)
كان لموسى عليه السلام هدف من رحلته التي اعتزمها, وكان يقصد من ورائها امرا، فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي يقضيه في الوصول، فيعبر عن هذا التصميم قائلا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).
القرآن الكريم لم يحدد المكان الذي وقعت فيه القصة، ولا التاريخ بالتحديد هل كان قبل بعثة موسى عليه السلام أم بعد أن بعثه الله رسولا، كما أنه لم يصرح بالأسماء ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ماذا بالضبط؟.
اختلف المفسرون حول مكان وقوع القصة فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل بحر الأندلس، إلا أن كل هذه التفسيرات لاتقوم على دليل، ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى، إنما يأتي أبهام المكان والزمان وأسماء الأشخاص في السياق القرآني لحكمة يعلمها وحده سبحانه وتعالى، فيخفي السياق القرآني اسم أهم أبطال القصة ويشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله: (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا).
فالقصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا الذي نعرفه، وليس علم الأنبياء القائم على الوحي.. إنما علم من طبيعة غامضة بلا تفسيرات.. علم القادر الأعلى.
لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى عليه السلام بأمور كثيرة، فهو كليم الله عز وجل، وأحد أولي العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، وإنما كلمه الله تكليما.
هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم متواضع، ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه الخضر عليه السلام كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها.
ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صحبة موسى، يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا، ثم يوافق على صحبته بشرط ألا يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه.
والخضر في القصة هو الصمت المبهم، فهو لا يتحدث، وتصرفاته التي يأتيها الخضر ترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.. وهناك تصرفات تبدو لموسى بلا معنى.
تبدأ القصة بعد أن قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، ويبدو أن حديثه جاء جامعا قويا، وبعد أن انتهى من خطابه سأله أحد المستمعين من بني إسرائيل: هل على وجه الأرض أحد اعلم منك يا نبي الله؟، فقال موسى مندفعا: لا..
وساق الله تعالى عتابه لموسى حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبريل يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟، فأدرك موسى أنه تسرع وعاد جبريل، عليه السلام، يقول له: إن لله عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.
عقد موسى العزم على الرحيل لمصاحبة هذا العبد العالم وسأل كيف السبيل إليه فأمر أن يرحل، وأن يحمل معه حوتا في مكتل (سمكة في سلة)، وفي المكان الذي ترتد فيه الحياة لهذا الحوت ويتسرب في البحر، سيجد العبد العالم.
انطلق موسى ومعه فتاه (الذي قيل أنه يوشع بن نون) وقد حمل الفتى الحوت، بحثا عن العبد الصالح وليست لديهم أي علامة على المكان الذي يوجد فيه إلا معجزة ارتداد الحياة للسمكة القابعة في السلة وتسربها إلى البحر.
يظهر عزم موسى عليه السلام في العثور على هذا العبد ولو اضطره الأمر إلى أن يسير أحقابا وأحقابا (يقال أن الحقبة عام كامل)، وقيل ثمانون عاما، وهي في العموم تعبير عن التصميم، لا عن المدة على وجه التحديد.
وصل الاثنان (موسى وفتاه) إلى صخرة جوار البحر، فرقد موسى واستسلم للنعاس، وبقي الفتى ساهرا، وهنا أذن الله سيحانه وتعالى فعادت الحياة للحوت وقفز إلى البحر.. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا).. وهي العلامة التي أرشد الله نبيه موسى إلى أنه سيجد عندها الرجل الحكيم الذي جاء يتعلم منه.
نهض موسى من نومه فلم يلاحظ أن الحوت تسرب إلى البحر ونسي فتاه يصحبه أن يحدثه عما وقع، فسارا بقية يومهما وقد نسيا أمر الحوت، وعندما حل بهما التعب تذكر موسى غداءه (قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)، وعندئذ تذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر فأخبر موسى بما وقع، واعتذر إليه بأن الشيطان أنساه أن يذكر له الحادثة.
فرح موسى بما ذكره الفتى (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)، مؤكدا لفتاه أن هذا ما كان ينتظره فتسرب الحوت يحدد المكان الذي سيلتقي فيه بالرجل العالم.
وهكذا أرتد الأثنان يقصان أثرهما عائدين إلى موضع الصخرة التي عادت عندها الحياة للحوت، وهناك وجدا رجلا مسجى بثوبه.. وقد جعل طرفه تحت رجليه وطرف تحت رأسه، فسلم عليه موسى وطلب أن يصحبه في طريقه على أن يعلمه مما يعلم، لكن الخضر رفض (إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، مؤكدا لموسى أنه لن يطيق صبرا على علم يجهله، لأن الظواهر لن تعطيه تفسيرا، وربما يرى ما لا يفهم له سببا أو علة.
لكن موسى أحتمل كلمات الصد القاسية وعاد يرجو العبد الصالح أن يسمح له بمصاحبته والتعلم منه، موكدا له إنه سيجده إن شاء الله صابرا ولا يعصي له أمرا.
قال الخضر إن هناك شرطا لقبول أن يصاحبه موسى وهو ألا يسأله عن شيء حتى يحدثه هو عنه.. فوافق موسى على الشرط وانطلقا سويا.
مشى موسى عليه السلام مع العبد الصالح على ساحل البحر فمرت بهما سفينة، فطلب الخضر وموسى من أصحابها أن يحملوهما، وعرف أصحاب السفينة الخضر فحملوه وحملوا موسى بدون أجر، إكراما للخضر، وفوجئ موسى حين رست السفينة وغادرها أصحابها حتى بدأ الخضر يخرق السفينة، فاقتلع لوحا من ألواحها وألقاه في البحر فحملته الأمواج بعيدا.
استنكر موسى تصرف الخضر، كان تصرف معيب من وجهة نظره.. وغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه، وحركته غيرته على الحق، فاندفع يحدث معلمه وقد نسي الشرط: (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).
ولما ذكره العبد الصالح بما أشترطه عليه (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، أعتذر موسى بالنسيان ورجاه ألا يؤاخذه وألا يرهقه (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).
ومجددا أنطلق الأثنان في مسيرة هدفها العلم، فمرا على حديقة يلعب بها صبيان.. حتى إذا تعبوا من اللعب انتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنعاس.. فوجئ موسى بأن الخضر يقتل غلاما، فثار سائلا عن الجريمة التي ارتكبها هذا الطفل لينال القتل كجزاء.
ويعاود الخضر تذكيره بأنه لن يستطيع الصبر (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا)، ومجددا يعتذر موسى بأنه نسي ولن يعاود الأسئلة، مضيفا أنه لو نسي مرة آخرى سيكون من حق الخضر أن يفارقه (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا).
وتستمر الرحلة، فيدخلا قرية بعد أن نفذ منهما الطعام، فاستطعما أهل القرية فأبوا أن يضيفوهما.. وجاء عليهما المساء، وأوى الاثنان إلى خلاء فيه جدار يريد أن ينقض (جدار يتهاوى ويكاد يهم بالسقوط)، وفوجئ موسى بأن الخضر ينهض ليقضي الليل كله في إصلاح الجدار وبنائه من جديد.
يندهش موسى من تصرف رفيقه ومعلمه فالقرية بخيلة، لا يستحق من فيها هذا العمل المجاني (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)، وما كاد ينطقها موسى حتى التفت إليه الخضر: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ).
إن كل تصرفات العبد الرباني التي أثارت موسى وحيرته لم يكن حين فعلها تصدر عن أمره.. كان ينفذ إرادة عليا.. وكانت لهذه الإرادة العليا حكمتها الخافية، وكانت التصرفات تشي بالقسوة الظاهرة، بينما تخفي حقيقتها رحمة.
إن أصحاب السفينة سيعتبرون خرق سفينتهم مصيبة جاءتهم، بينما هي نعمة تتخفى في زي المصيبة.. نعمة لن تكشف النقاب عن وجهها إلا بعد أن تنشب الحرب ويصادر الملك كل السفن الموجودة غصبا، ثم يفلت هذه السفينة التالفة المعيبة.. وبذلك يبقى مصدر رزق الأسرة عندهم كما هو، فلا يموتون جوعا.
وسيعتبر والد الطفل المقتول وأمه أن كارثة قد دهمتهما لقتل وحيدهما الصغير البريء.. غير أن موته يمثل بالنسبة لهما رحمة عظمى، فإن الله سيعطيهما بدلا منه غلاما يرعاهما في شيخوختهما ولا يرهقهما طغيانا وكفرا كالغلام المقتول.
أما الجدار فقد كان يخبئ تحته كنزا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه.. ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.